شعر ماكجيل بثقلٍ في عينيه, وأحسّ بأن جواب ذلك خارج قدرات عقله الآن. لو كان عقله أكثر تركيزاً, ربما كان استطاع فهم ذلك كله. ولكن عليه أن ينتظر حتى طلوع الشمس كي يستدعي مستشاريه, و يبدأ بالتحقيق. كان السؤال الذي يدور في عقله ليس من أراد قتله, ولكن من الذي لا يريد موته. إنّ بلاطه مليءٌ بالناس التي تتوق إلى الوصول إلى العرش. قادة الجند الطموحين, أعضاء المجلس الدهاة و اللوردات المتعطشين للسلطة و الجواسيس, الخصوم القدامى و القتَلى من ماكلاود, و ربما حتى ساكنوا البراري. ربما أقرب من ذلك بكثير.
رفرفت عيون ماكجيل وهو يغطّ في نومٍ عميق. و لكن شيئاً ما استرعى انتباهه و أبقى عينيه مفتوحتان. لقد أحسّ ببعض الحركة و نظر إلى الأمام فلم يجد مرافقيه هناك. ألقى نظرة سريعة في المكان وهو مشوش. لم يتركه مرافقيه وحيداً من قبل أبداً, وفي الواقع لا يتذكر آخر مرةٍ بقي فيها وحيداً في هذه الغرفة. ولا يتذكر أنه أمرهم بالمغادرة. و الأغرب من ذلك, أن بابه كان مفتوحاً على مصراعيه.
وفي نفس اللحظة سمع ماكجيل صوتاً من الجانب الآخر من الغرفة, التفت و نظر إلى هناك. كان هناك ظلٌّ يمتد على الجدار بسبب المشاعل, ظل رجلٍ طويل القامة و نحيل, يرتدي عباءةً سوداء مع غطاءٍ منسدلٍ على وجهه. طَرَف ماكجيل عدة مرات محاولاً معرفة ما يراه أمامه. في البداية كان واثقاً أنها مجرد ظلال, و أن وميض المشاعل تتلاعب في عينيه.
ولكن بعد لحظات اقترب ذلك الشيء عدة خطوات باتجاهه وأخذ يقترب من السرير بسرعة. حاول ماكجيل التركيز في ذلك الضوء الخافت, لمعرفة من الذي كان هناك. بدأ بالجلوس بشكلٍ غريزي, و أخذ يمدّ يديه إلى خصره محاولاً سحب سيفه أو على الأقل خنجره. و لكنه كان عار من ملابسه ولم تكن معه أيّة أسلحة. جلس هناك على سريره منزوع السلاح.
أصبح ذلك الشكل يتحرك بسرعةٍ كبيرة الآن, كالثعبان في الليل. أصبح قريباً جداً وبينما كان ماكجيل يجلس, أخذ نظرة على وجهه. كانت الغرفة لا تزال تدور به, و السكر يمنعه من التركيز بشكل كبير, و لكن للحظة استطاع تمييز تقاسيم وجه ابنه.
غاريث؟
امتلأ قلب ماكجيل بالذعر بشكل مفاجئ, و تساءل عمّا يمكن أن يكون ما يفعله هنا, بشكل سريّ وفي هذه الساعة المتأخرة من الليل.
"بُني؟" صاح ماكجيل.
رأى ماكجيل نية القتل في عينيه, وكان هذا كلّ شيءٍ يحتاج إلى رؤيته. حاول القفز خارج سريره.
و لكن الشبح تحرك بسرعةٍ كبيرة جداً. و انطلق باتجاه ماكجيل و قبل أن يتمكن من رفع يده للدفاع عن نفسه, كان هناك شيءٌ لامعٌ في يده, و بسرعةٍ كبيرة جداً, كان هناك نصلٌ يشقّ الهواء و ينغرس في قلبه.
صرخ ماكجيل, صرخةً عميقةً من الألم, و فوجئ بهذا الصوت الذي صرخ به. كانت صرخة معركة, صوتاً سمعه مراتٍ كثيرةٍ جداً. كانت هذه صرخة محارب مصاب بجروح خطيرة.
شعر ماكجيل بذلك المعدن البارد يخترق أضلاعه, ويندفع خلال عضلاته مختلطاً مع دمه, ثمّ اندفع أعمق وأعمق, كان الألم أكثر شدةً مما كان يتصور في أي وقتٍ مضى, و هو يشعر بأنه لن يتوقف عن الانغراس أبداً. خلال هذه اللحظات الشديدة, شعر بالحر و أحس بالدم المالح في فمه, وشعر بنَفسه يصبح أكثر صعوبة. و بصعوبة كبيرة أجبر نفسه على النظر إلى الأعلى, على الوجه الذي كان خلف ذلك الغطاء. تفاجئ ماكجيل, لقد كان مخطئاً. لم يكن ذلك وجه ابنه. لقد كان شخصاً آخر. شخصٌ ما استطاع أن يتعرّف عليه. و لكنه لا يستطيع تذكر من هو, كان شخصاً مقرباً منه. شخصٌ ما بدا و كأنه ابنه.
كاد دماغه أن يتمزق وهو يحاول معرفة اسم صاحب هذا الوجه.
بينما أصبح ذلك الشخص فوقه, تمكّن ماكجيل وبطريقةٍ ما من رفع يده ودفع الرجل بها من كتفه, في محاولة لإيقافه. بدأ يشعر بموجةٍ من قوة المحاربين القدامى ترتفع في داخله, أحسّ بقوة أسلافه, أحسّ بشيءٍ عميق في داخله جعل منه ملكاً وحمله على عدم الاستسلام. بدفعةٍ واحدةٍ هائلة, استطاع أن يبعد ذلك القاتل بكل قوته.
كان الرجل ضعيفاً جداً, أنحل مما كان يعتقد ماكجيل, ورجع إلى الخلف متعثراً مع صرخة انطلقت عبر الغرفة. تمكن ماكجيل من الوقوف وبقوةٍ كبيرة, وصلت يداه إلى الأسفل وقام بسحب السكين من صدره. رماها عبر الغرفة وأصدرت رنةً عند وقوعها على الأرض الحجرية, ثمّ انزلقت عبر الغرفة واصطدمت بالحائط البعيد.
الرجل الذي سقط قناعه فوق كتفيه, وقف على قدميه وهو يتعثر و يحدّق بعنينه الواسعتين مع بعض الخوف, حين بدأ ماكجيل بالاقتراب منه وإلقاء ثقله عليه. ولكن الرجل التفت بسرعة وركض عبر الغرفة. ثمّ توقف فقط للحظة تمكّن فيها من استرداد خنجره قبل أن يتمكن من الهرب.
حاول ماكجيل مطاردته ولكن الرجل كان سريعاً جداً, فجأةً شعر ماكجيل ببعض الألم يزداد داخله ويخترق صدره. شعر بنفسه يزداد ضعفاً.
وقف ماكجيل هناك وحيداً في الغرفة, و نظر إلى الأسفل إلى الدم الذي ينهمر من صدره, إلى داخل راحة يده المفتوحة. ثمّ انهار على ركبتيه.
شعر بجسده يزداد برودة, وانحنى إلى الأمام محاولاً استدعاء أحدٍ ما.
"أيها الحراس," جاءت صرخته بصوتٍ خافت.
أخذ نفساً عميقاً وبصعوبةٍ شديدة, تمكّن من استجماع قوته, ليطلق صرخةً واحدة ملكيّة.
"أيها الحراس!" صرخ عالياً.
سمع بعض دعسات الأقدام من الرواق البعيد, وهي تقترب ببطء. سمع الباب البعيد يُفتح واستشعر بتلك الدعسات تصبح قريبةً منه. ولكن الغرفة بدأت تدور به مرةً أخرى, هذه المرة ليس بسبب الشرب.
كان آخر شيءٍ رآه هو تلك الأرض الحجرية الباردة, وهي ترتفع كي تواجه وجهه.
الفصل الثاني
أمسك تور باليد الحديدية للباب الخشبيّ الكبير الذي كان أمامه, وسحبه بكلّ قوته. فُتح الباب ببطء وهو يصدر صريراً ثمّ ظهرت أمامه غرفة الملك. مشى خطوةً إلى الأمام, وهو يشعر برعشةٍ في يديه أثناء عبوره لعتبة الباب. كان يمكنه أن يشعر بالظلام الدامس هنا, العالق في الهواء مثل الضباب.
مشى تور عدة خطواتٍ إلى الأمام, كان يسمع حسيس النار في المشاعل المعلقة على الجدران وهو يشقّ طريقه باتجاه الجسم الملقى على الأرض. لقد شعر بأنّه الملك, بأنّه قُتل, لقد كان متأخراً جداً. لم يتمكن تور من مساعدته ولكنه تساءل أين كان جميع الحراس ولماذا لا يوجد أحدٌ هنا لإنقاذه.
شعر تور بالضعف في ركبتيه بينما كان يتخذ خطواته الأخيرة نحو جثة الملك. نزل تور على الأرض وأمسك بكتف الملك البارد, ثمّ أرجع جسد الملك إلى الخلف.
لقد كان ماكجيل, الملك السابق, ملقاً هناك بعيونه الجاحظة, إنّه ميت..
نظر تور إلى الأعلى وفجأةً وجد مرافق الملك يقف فوق رأسه ممسكاً بقدح مرصع بالجواهر, لقد استطاع تور التعرّف عليه, إنّه من مائدة الليلة. إنه القدح المصنوع من الذهب الخالص والمغطى بصفوفٍ من الياقوت والمرجان. وبينما كان يحدّق بتور, قام المرافق بسكب الكأس ببطءٍ على صدر الملك. رُشَّ تور بالنبيذ في جميع أنحاء وجهه.
سمع تور صرخةً عالية, ورفع رأسه و رأى صقره إيستوفيليس واقفاً على كتف الملك, يمسح النبيذ من على خده.
سمع تور بعض الضوضاء ,التفت و رأى أرجون يقف فوق رأسه ويحدّق به بصرامة. ويحمل التاج بإحدى يديه, والعصا بيده الأخرى.
مشى أرجون إلى الأمام ووضع التاج على رأس تور بقوة. لقد تمكّن تور من الشعور بذلك, تمكّن من الشعور بوزن التاج وهو يضغطه على رأسه, ويأخذ مكانه بالشكل الصحيح, يمكنه أن يشعر بمعدن التاج يعانق صدغيه. نظر إلى أرجون متعجباً.
"أنت الملك الآن," صاح أرجون موضحاً.
رمش تور بعينيه قليلاً, وعندما فتحهما وجد جميع أعضاء فرقة الفضة يقفون أمامه, مع المئات من الرجال والفتيان في جميع أنحاء الغرفة, جميعهم يتوجهون إليه. وجميعاً كرجل واحد, ركعوا ثمّ سجدوا حتى اقتربت وجوههم من الأرض.
"ملكنا," انطلق الأصوات معاً.
استيقظ تور فجأة. كان يجلس بوضعية مستقيمة, يتنفس بصعوبة وينظر إلى كلّ شيء حوله. كان المكان مظلماً ورطباً هناك, ثمّ أدرك أنه يجلس على أرضية حجرية, وظهره إلى الحائط. حدّق بعينين نصف مغمضتين في الظلام ورأى القضبان الحديدة على مسافة منه, وأبعد منها كان هناك شعلة تهتز بعيداً. كان قد تمّ جرّه إلى هنا, بعد الوليمة.
تذكر الحارس, وهو يلكمه على وجهه. ثمّ تذكر أنه فقد وعيه. لا يعرف منذ كم كان ذلك. جلس تور وهو يتنفس بعصوبة, محاولاً أن يتخلص من ذلك الحلم المرعب. لقد بدا كأنه حقيقي. كان تور يصلي ألّا يكون ذلك صحيحاً, وأنّ الملك لم يمت. لقد جاءت صورة الملك وهو ميت إلى ذهنه, هل كان تور يرى شيئاً حقيقاً؟ أم أن ذلك كان خيالاً فقط؟
شعر تور بشخصٍ يركله على قدمه, نظر إلى الأعلى فرأى شخصاً يقف فوق رأسه.
"وأخيراً استيقظت ," جاء صوت من فوق رأسه. "أنا أنتظر منذ ساعات."
وفي الضوء الخافت نظر تور إلى وجه الصبي الصغير, أراد معرفة عمره. لقد كان نحيلاً وقصيراً, ذو خدين أجوفين وجلد مثقب, يبدو أن هناك فتى ذكي خلف تلك العينين الخضراوتين.
"أما ميريك," قال الصبي. "زميلك في الزنزانة, لماذا أنت هنا؟"
جلس تور بشكل مستقيم, حنى ظهره على الحائط ومرر يديه من خلال شعره, محاولاً أن يتذكر, وأن يجمع كل ما حصل معاً.
"يقولون أنك حاولت قتل الملك," تابع ميريك.
"لقد حاول قتل الملك, وسنقوم بتمزيقه إرباً إذا خرج من خلف تلك القضبان," جاء صوت مليءٌ بالغضب.
انطلقت جوقة من القعقعة, كانت أصوات الأكواب وهي تُطرق بقوة على القضبان المعدنية, نظر تور إلى الخارج ورأى في ضوء المشعل الممر المليء بالزنازين, والسجناء بشعي المظهر الذين يلصقون رؤوسهم بالقضبان المعدنية, وهم ينظرون باحتقار إليه. معظمهم كانوا غير حليقين, مع الكثير من الأسنان المفقودة, بدا بعضهم كأنه هنا منذ سنوات. كان مشهداً مرعباً, وأجبر تور نفسه على النظر بعيداً عن ذلك. هل كان حقاً موجوداً هنا؟ هل سيكون عالقاً هنا في الأسفل, مع هؤلاء الناس وإلى الأبد؟