كان غاريث قد صرف مرافقيه وركض وحده, يصعد الدرج تلو الآخر, وهو يتنفس بصعوبة. توقف عند واحد من الطوابق, انحنى وأنفاسه تشتعل. كانت الدموع تنهمر على وجنتيه. كان لا يزال يرى وجه والده, يوبخه عند كل منعطف.
"أنا أكرهك!" صرخ في الهواء.
كان يكاد يقسم أنه سمع أحداً يرد عليه بالاستهزاء والضحك. سمع ضحك والده.
كان غاريث يحتاج إلى الابتعاد عن هنا. التفت وواصل الجري والركض, حتى وصل أخيراً إلى الأعلى. فتح الباب بقوة, واندفع هواء الصيف النقي إلى وجهه.
تنفس عميقاً, وهو يلهث, تحت ضوء الشمس, والنسائم الدافئة. خلع عباءته, عباءة والده, ورمى بها إلى الأرض. كان الجو حاراً ولم يعد يريد هذه الثياب بعد الآن.
سارع إلى حافة الشرفة وأمسك السور الحجري وهو يتنفس بصعوبة, ويراقب مملكته. كان يرى حشداً ليس له نهاية, يخرج من القلعة. كانوا يغادرون الحفل, حفله. لقد استطاع رؤية خيبة أملهم من هنا. لقد بدوا صغار جداً. وتعجب أنهم كانوا جميعاً تحت سيطرته.
ولكن إلى متى؟
" أمور الحكم مضحكة فعلاً," ظهر صوت قديم.
التفت غاريث ورأى, مدهوشاً, أرجون واقفاً هناك, على بعد أمتار, يرتدي عباءة بيضاء وغطاءً, ويحمل أشياءه بيده. كان يحدق فيه, وقد رسم ابتسامة على زاوية شفتيه, ولكن عينيه لم تبتسما. كانتا متوهجتين, كان يحدق في وجهه تماماً, وقد أصابتا غاريث بالرعشة. لقد رأى عبرهما الكثير.
كان هناك الكثير من الأمور التي أراد غاريث أن يسألها لأرجون. لكن الآن بعد أن فشل برفع السيف, لم يكن يتذكر واحدة منها.
"لماذا لم تخبرني؟" ناشد غاريث واليأس في صوته. "كنت تستطيع إخباري بأنني لست المختار. كنت وفرت علي العار والخزي."
"ولماذا أفعل ذلك ؟" سأل أرجون.
عبس غاريث.
"أنت لست مستشاري الحقيقي," قال. "كنت تنصح والدي, أما أنا فلم تفعل."
ازداد غضب غاريث. كان يكره هذا الرجل, وكان يلومه بشدة.
"أنا لا أريدك حولي," قال غاريث. "أنا لا أعرف لماذا وظفك والدي هنا, ولكن أنا لا أريد وجودك في بلاط الملك."
ضحك أرجون, بصوت أجوف مخيف.
"لم يوظفني والدك, أيها الصبي الأحمق," ردّ أرجون. "لا والدك ولا من كان قبله, إن وجودي هنا متعمّد. في الواقع, يمكنك القول أنني أنا من وظفتهم."
تقدم أرجون فجأة خطوة إلى الأمام, وبدا كما لو كان يحدق في روح غاريث.
"هل يمكننا أن نسأل السؤال نفسه عن وجودك هنا؟" سأل أرجون. "هل من المفترض أن تكون هنا ؟"
ضربت كلماته وتراً حساساً عند غاريث, بعثت البرد في جسده. كان الشيء ذاته الذي يسأله غاريث لنفسه, وتساءل غاريث إذا كان ذلك تهديداً.
"من يحكم بالدم سيُحكم عليه بالدم," أعلن أرجون, ومع تلك الكلمات, التفت بسرعة وبدأ في الابتعاد.
"انتظر!" صرخ غاريث, لم يعد يريده أن يذهب, كان يحتاج إلى إجابات. "ماذا تقصد بذلك؟"
لم يكن غاريث متأكداً ولكنه شعر بأن أرجون يعطيه رسالة, رسالةً بأنه لن يحكم طويلاً. كان يحتاج إلى معرفة ما إذا كان هذا ما كان يعنيه.
ركض غاريث وراءه, ولكنه حين اقترب, اختفى أرجون أمام عينيه.
التفت غاريث, نظر حوله, ولكن لم يرى شيئا. سمع صوت ضحك أجوف فقط, في مكان ما في الهواء.
"أرجون!" صرخ غاريث.
التفت مرة أخرى, ثم نظر إلى السماء, انحنى على ركبة واحدة ورمى رأسه إلى الخلف. وصرخ:
"أرجون!"
الفصل السابع
سار ايريك إلى جانب الدوق براندت والعشرات من حاشية الدوق, عبر شوارع سافاريا المتعرجة, يتزايد الحشد وراءهم كما يذهبون, نحو بيت الخادمة لقد أصرّ إيريك على لقاءها بدون تأخير, وكان يريد أن يقود الدوق طريقهم شخصياً. وأين يذهب الدوق, يذهب الجميع, نظر ايريك حوله إلى الحاشية الضخمة والمتنامية, وشعر بالحرج, حين أدرك أنه سيصل إلى منزل الفتاة مع عشرات الأشخاص من حوله.
منذ رآها للمرة الأولى, لم يستطع ايريك التفكير بشيءٍ سواها. من كانت هذه الفتاة, تساءل, لقد بدت من عائلة نبيلة, ولكنها تعمل في بلاط الدوق كخادمة ؟ لماذا هربت منه على عجل ؟ لماذا كان ذلك, خلال سنوات حياته كلها, ومع كل النساء النبيلات اللاتي التقاهن, كانت هي الوحيدة التي أسرت قلبه ؟
لقد كان في قصر الملك طوال حياته, وهو ابن الملك نفسه, كان يمكن له أن يكشف النبلاء الآخرين في لحظة, وقد شعر منذ اللحظة الأولى أنها كانت أكثر بكثير من المكان الذي هي فيه. كان يحترق من الفضول لمعرفتها, ومن أين كانت, وما الذي تفعله هنا. كان يحتاج إلى فرصةٍ ليركز عينيه عليها, ليرى إذا ما كانت كما تخيل و إذا كان لا يزال يشعر بالطريقة نفسها تجاهها.
"لقد قال لي الخدم أنها تعيش على مشارف المدينة," أوضح الدوق, ويتحدث وهم يتابعون السير. كما ذهبوا, كان الناس يفتحون أبوابهم على جانبي الشوارع وينظرون. مندهشين من وجود الدوق والحاشية المرافقة له في الشوارع العامة.
"على ما يبدو, هي خادمة في إحدى الخانات عندنا. لا أحد يعرف أصلها. من أين جاءت. كل ما نعرفه أنها وصلت إلينا في يوم ما, وأصبحت خادمة بالسخرة. على ما يبدو أن ماضيها, لغز."
ساروا جميعهم إلى شارع جانبي آخر, حيث أصبحت الحصا تحت أقدامهم أكثر اعوجاجاً, والمساكن صغيرة ومتهالكة وأقرب إلى بعضها البعض.
تنحنح الدوق.
" لقد أخذتها كخادمة في البلاط في مناسبات خاصة. إنها هادئة, ومنطوية على نفسها لا أحد يعرف عنها الكثير يا إيريك," قال الدوق, ملتفتاً أخيراً إلى إيريك, ووضعاً يده على معصمه," هل أنت متأكدٌ بشأن هذا الموضوع؟ هذه المرأة, أيّاً كانت هي, فهي فتاة أخرى من العامة. يمكنك اختيار أي امرأة من المملكة."
نظر ايريك إليه.
"يجب أن أرى هذه الفتاة مرة أخرى, لا يهمني من هي."
هز الدوق رأسه باستنكار, وواصلوا جميعهم السير, يتجاوزون الطريق بعد الآخر, عبر أزقة ملتوية وضيقة. كلما كانوا يتابعون السير, كانت أحياء سافاريا تزداد قذارة, وتمتلئ الشوارع بالسكارى, والدجاج والكلاب يجولون حولهم. مروا بالحانة بعد الأخرى, وصرخات الرجال تسمع من الخارج. تعثر عدة سكارى أمامهم, وعندما حلّ الليل, بدأت الشوارع تنار بواسطة المشاعل.
"افتحوا طريقاً للدوق!" صاح مرافقه, وهرع إلى الأمام, دافعاً السكارى بعيداً عن الطريق. في كل شارع كان هناك أناس بغيضون يشاهدون بدهشة, مرور الدوق وإيريك بجانبه.
أخيراً وصلوا إلى نزلٍ متواضع صغير, مبنيٍّ من الجص, مع سقف حجري. بدا الأمر كما لو أنها تحتوي خمسين نزيل, مع عدد قليل من الغرف داخله. كان الباب الأمامي ملتوٍ, وقد كُسرت إحدى النوافذ, ومصباح المدخل قد علق باعوجاج, وشعلته تخفق باستمرار, بضوئها الخفيف جداً. تسربت صيحات السكارى من النوافذ, بينما كانوا يقفون جميعهم أمام الباب.
كيف يمكن لفتاةٍ جميلةٍ أن تعمل في مكان مثل هذا؟ تساءل إيريك برعب, حين سمع صراخ وصيحت الاستهجان من الداخل.
لقد كُسر قلبه حين فكر بذلك, وتخيل الإهانة التي تعاني منها في هذا المكان. هذا ليس عدلاً, فكر إيريك. كان يشعر أنه عازم على إنقاذها.
"لماذا أتيت إلى أسوأ مكانٍ لتختار عروسك منه ؟" سأل الدوق موجها سؤاله إلى ايريك.
التفت براندت نحوه أيضاً.
"هذه آخر فرصة يا صديقي," قال براندت. "هناك قلعة ممتلئة بالنساء النبيلات تنتظر عودتك إلى هناك."
لكن ايريك هز رأسه, رافضاً.
"افتح الباب," أمر إيريك.
هرع رجال الدوق إلى الأمام وقاموا بخلع الباب, انتشرت رائحة البيرة من الداخل, بشكل منفّرٍ للغاية.
في الداخل, كان الرجال السكارى منحنين فوق العارضة, يجلسون على طاولات خشبية, ويهتفون بصوت عالٍ جداً, يضحكون, ويلقون السباب ويتصارعون مع بعضهم البعض. كانوا من طبقة الخدم, كان يمكن لإيريك معرفة ذلك بنظرة واحدة, ببطونٍ كبيرة جداً وخدين غير حليقين, وملابس غير مغسولة. لم يكن أحدهم محارباً.
تقدم ايريك عدة خطوات, يبحث عنها في المكان. لم يكن يتصور أن تعمل امرأة مثلها في مثل هذا المكان. وتساءل عما إذا كانوا قد جاؤوا إلى نزل خاطئ.
"عفوا يا سيدي, أنا أبحث عن امرأة," قال ايريك لرجل يقف بجانبه, طويل القامة, واسع الكتفين, مع بطنٍ كبيرة, غير حليق.
"أنت كذلك إذاً؟" صاح الرجل ساخراً. "حسناً, لقد أتيت إلى المكان الخطأ! هذا ليس بيت دعارة. هناك واحد في هذا الشارع- وسمعت أن النساء هناك جيدات وممتلئات!"
بدأ الرجل يضحك بصوت عالٍ جداً, في وجه ايريك , بينما انضم إليه العديد من رفاقه.
"ليس مطلبي بيت دعارة," أجاب ايريك, غير مسرور, "ولكن أبحث عن امرأة محددةٍ, تعمل هنا."
"لا بد أنك تعني خادمة النزل," قال شخصٌ آخر, كان رجلاً ضخماً آخر في حالة سكر. "إنها على الأرجح في الخلف في مكان ما, تنظف الأرض. هذا سيءٌ جداً- كنت أتمنى لو كانت هنا, في حضني!"
ضحك الرجال جميعهم بصوت عالٍ, وقد احمر وجه إيريك من التفكير بذلك. كان يشعر بالخجل لأجلها. بأن تكون مجبرة على خدمة كل هذه الأنواع, كانت إهانة كبيرة له.
"ومن أنت ؟" جاء صوت آخر.
تقدم رجل إلى الأمام, أضخم من الآخرين, ذو لحيةٍ وعيونٍ داكنة, فك واسع, متهجم الوجه ويرافقه عدد من الرجال القذرين. كان يملك عضلاتٍ أكثر من الدهون, اقترب من ايريك مهدداً, كان من الواضح أنه ريفيّ.
"هل تحاول سرقة خادمتي ؟" سأله بغضب. "اخرج من هنا اذن!"
تقدم إلى الأمام محاولاً الوصول إلى إيريك.
لكن ايريك, محصّنٌ بسنواتٍ من التدريب, أعظم فارس في المملكة, كانت ردة فعله أقوى من أن يتخيله هذا الرجل.
باللحظة التي لمس فيها إيريك بيديه, اندفع ايريك, ولوى معصمه بقوة, نظر إلى الرجال حوله بسرعة البرق, ثم أمسكه من الخلف من قميصه, ودفعه عبر الغرفة.
حلق الرجل الكبير ككرة مركولةٍ بقوة, وأخذ معه عدة رجال, وسقطوا جميعهم على الأرض في مكان صغير كأنهم قوارير بولينج.
ساد الصمت الغرفة بأكملها, بينما توقف كل الرجال يشاهدون ما حدث.
"قتال! قتال!" هتف الرجال.
وقف صاحب النزل متعثراً, وهو في حالة ذهول واندفع نحو ايريك مع صيحة.